بريّ قلم الرصاص يجعله دوماً أقصر!
سألت والدتي سؤالي التقليدي عن رغبتها بهدية عيد الأم لهذا العام، فجاء ردها الدائم الذي اعتدته على مدار سنوات العُمر : “ما أريدك إلا سالم” وهذا الرد كان معناه بالنسبة لي ان اجتهد لأفكر بالهدية كما أشاء، ولكنها واصلت الحديث بعد دقائق الصمت القليلة التي تلت الرد السنوي القليدي، وقد حدثتني بصوت منخفض جدا يمتاز بالخجل والطيبة والتواضع الكبير، وفهمت في نهاية الحديث الذي بدأ بالحواسيب وبرمجيات السكايب والفايبر والواتس أب والتواصل مع الخارج مجاناً من خلالها، بأنها ترغب بهاتف ذكي!
أمي التي بدأت عقدها السابع دون أن تكون مقتنعة أو مهتمة بأي شيء له علاقة بالتكنولوجيا وقد كان أقصى إهتماماتها التكنولوجية تنصب على لاقط القمر الاصطناعي لمتابعة المحطات الفضائية والمسلسلات التركية للتسلية، تفكر اليوم بحاجتها الى هاتف ذكي، فسألتها ان كانت ترغب ان يكون آي فون أم أندرويد ولكنها تركت لي الخيار.
زار فلسطين مؤخرا مجموعة من الخبراء التكنولوجيين الغربيين، وجميعهم يعملون في بلدان متقدمة تكنولوجياً ويتبعون لشركات تصنيع تقنيات متطورة، ولكن مما يثير الحفيظة، ودفعني الى البحث والتنقيب في آليات التفكير والتوجهات، واستنادً الى المثل العربي الشهير ” طباخ السُم بدوقه”، لم يكن يحمل معظمهم الهواتف المتطورة الذكية ولا الشاشات اللوحية، هواتفهم كانت تلك التي كنا نستخدمها قبل عشرة اعوام في فلسطين! ولكن معارفهم التكنولوجية كانت تلك التي يمكن ان نصل اليها بعد عشر سنوات ان اطلقنا اليوم مسيرة البناء الجدية!
أثارت هذه المفارقة اهتمامي، فمن أنتج العلم سابقا واستخدم جوهره في انتاج التكنولوجيا والتطبيقات التي تسهل حياته اليومية وبعدها صدّره الى الدول والمجتمعات التي لا تقوى على امتلاك المعرفة وتطبيقها، نجده اليوم وقد تحول الى تاجر ينتج التكنولوجيا ويبيع قشورها ومظاهرها للدول والمجتمعات النامية التي لا تنتجها وينئى بنفسه عن منظومة الاستهلاك الاعمى.
سألت أحد هؤلاء الخبراء الدوليين، لماذا لا تشتري هاتف ذكي بدل هاتفك المتخلف هذا؟ فنظر اليّ بإستغراب وقال: أنا لا أهوى الألعاب! وقد كان خبيراً في برمجة أنظمة التشغيل للهواتف الذكية.
أما بالمقارنة مع وضعنا الحالي في فلسطين فأن من لديه هاتف قديم نسبيا فإنه يشعر بالخجل، وربما بالتخلف في بعض الاحيان ولكن عند السؤال الحقيقي ماذا نفعل بالتطبيقات الذكية التي يحملها ذلك الجهاز، نجد انفسنا نتميز بالوصول الى مراحل متقدمة في الالعاب، واصبحنا اكثر ادماناً على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا كله ونحن مازلنا لا نملك تقنيات الجيل الثالث للاتصالات، فماذا سيحصل حينها؟
وفي زيارتي الأخيرة لوالدتي، وجدتها منهمكة في هاتفها الذكي الجديد، وقد اشترت له غلافاً جديداً راقي جدا ليحمي شاشته، وقد كنّا جميعا قد حمّلنا لها من دكان أبل تطبيقات التواصل الاجتماعي والاتصال وبعض الالعاب الحيوية التي لا بد ان تكون حاضرة، وذلك كله بعد ان اصبح لها عنوان بريد الكتروني وحساب خاص محمي بكلمة سر سجلتها على ورقة خارجية لحالات الضرورة.
كان تركيزها عالي في تلك الشاشة الصغيرة لدرجة انها لم تلحظ دخولي والقائي عليها السلام، وكان ما كنت اتوقعه فهي ايضا وبعد سبعين عام من عدم الاكتراث لمنتجات التكنولوجيا الحديثة باتت تستهلكها دون ان تقرر ذلك واصبحت تتسلى بأحدث تقنيات العصر التي لا يتسلى بالضرورة بها من ينتجها بل يستفيد من ريعها في انشاء اقتصاد متين، ويدمنها من يشتريها دون ان يكترث.
ل
ا بد من الاعتراف ان مفهوم العلم والتعلم قد تغيير بصورة كبيرة، وذلك كنتاج للثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي شهدناها خلال السنوات العشرين الاخيرة. ولكني لا أعرف تماما ماذا سيكون رد خليل السكاكيني لو سألناه اليوم نفس السؤال الذي سألوه اياه قبل قرن من الزمان! “ما العمل؟” ربما سيكون رده أكثر حدّة ولن يرضى بتغيير ترتيب احرف الكلمة فقط بل بتغيير ما تعنيه هذه الكلمة حسب متطلبات العصر الذي نعيشه.
هناك من ينتج دوما تكنولوجيات وهناك أيضا من يستخدمها بنجاعة، وهناك من يصنع أقلام الرصاص وهناك دوماً من يكتب بها ويبريها ليجعلها أفضل للكتابة وأقصر بالعُمر، وان كنا حتى اليوم نهتم بالقلم ولا نأبه بما نكتب، لأنه من الاسهل التركيز على القلم منه على المحتوى المكتوب فإن القلم سوف يستمر بالتلاشي حتى ينتهي ونشتري غيره فنغرق مجددا في دوائر الاستهلاك، أما ان كنا نحلم بأن يتحول يوما ما الى قلم من نوعٍ آخر فقد حان الوقت ان ندرك اني بريّ قلم الرصاص يجعله دوماً أقصر!
م.عارف الحسيني
aref.husseini@gmail.com